كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفلان كناية عن الإعلام كما أن الهن كناية عن الأجناس، فإِن أريد بالظالم عقبة فالمعنى ليتني لم اتخذ أُبيًا خليلًا فكنى عن اسمه، وإن أريد به الجنس فكل من اتخذ من المضلين خليلًا كان لخليله اسم علم فجعله كناية عن. قلت: زعم بعض أئمة اللغة أنه لم يثبت استعمال فلان في الفصيح إلا حكاية. لا يقال: جاءني فلان ولكن يقال: قال زيد جاءني فلان. لأنه اسم اللفظ الذي هو علم لا اسم مدلول العلم ولذلك جاء في كلام الله تعالى: {يقول يا ليتني}. إلخ. والذكر ذكر الله والقرآن أو موعظة الرسول أو نطقه بشهادة الحق وعزمه على الإسلام والشيطان إشارة إلى خليله الذي أضله كما يضله الشيطان، ثم خذله ولم ينفعه في العاقبة. أو إشارة إلى إبليس وأنه هو الذي حمله على أن صار خليلًا لذلك المضل وخالف الرسول صلى الله عليه وسلم ثم خذله، أو أراد الجنس فيدخل فيه كل من تشيطن من الجن والإنس.
ثم إن الكفار لما أكثروا من الاعتراضات الفاسدة ووجوه التعنت ضاق صدر الرسول صلى الله عليه وسلم وشكاهم إلى الله عز وجل وقال: {يا رب إن قومي} يعني قريشًا {اتخذوا هذا القرآن مهجورًا} أي تركوه وصدّوا عنه وعن الإيمان به. وعن ابي مسلم أن المراد: وقال الرسول صلى الله عليه وسلم يوم القيامة. روي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم «من تعلم القرآن وعلمه وعلق مصحفًا لم يتعاهده ولم ينظر فيه جاء يوم القيامة متعلقًا به يقول يا رب العالمين عبدك هذا اتخذني مهجورًا اقض بيني وبينه» وقيل: هو من هجر إذا هذى. والجار محذوف أي جعلوه مهجورًا فيه. وعلى هذا فله معنيان: أحدهما أنهم زعموا أنه كلام لا فائدة فيه. والثاني أنهم كانوا إذا سمعوه لغوا فيه. وجوز الكشاف أن يكون المهجور مصدرًا بمعنى الهجر كالميسور والمجلود أي اتخذوه هجرًا. سؤال: هذا النداء بمنزلة قول نوح {رب إني دعوت قومي ليلًا ونهارًا فلم يزدهم دعائي إلا فرارًا} [نوح: 5] فكيف صارت شكاية نوح سببًا لحلول العذاب بأمته ولم تصر شكاية نبينا صلى الله عليه وسلم سببًا لذلك؟ الجواب أن الكلام بالتمام، وكان من تمام كلام نوح {رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارًا} [نوح: 26] ولم يكن كلام رسولنا إلا مجرد الشكاية ولم يقتض الدعاء عليهم وذلك من غاية شفقته على الأمة وإن بلغ إيذاؤهم إياه الغاية «ما أوذي نبي مثل ما أوذيت» هذا مع أنه سبحانه سلاه وعزاه وأمره بالصبر على أذاهم حين قال: {وكذلك جعلنا} بين ذلك أن له أسوة بسائر الأنبياء فليصبر على ما يلقاه من قومه كما صبروا، وتمام البحث فيه قد سلف في الأنعام في قوله.
{وكذلك جعلنا لكل نبيّ عدوًا شياطين الإنس والجن} [الأنعام: 112] {وكفى بربك هاديًا ونصيرًا} إلى مصالح الدين والدنيا أو إلى طريق قهرهم والانتصار منهم ونصيرًا لك على أعدائك. ثم حكى عنهم شبهة خامسة وهي قولهم: هلا نزل عليه القرآن حال كونه جملة واحدة أي مجتمعًا. ومعنى التنزيل هاهنا التعدية فقط لقريتة قوله: {جملة} خلاف ما تقرر في أكثر المواضع من إرادة التكثير المفيد للتدريج كما مر في قوله: {نزل عليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل} [آل عمران: 3] والقائلون قريش أو اليهود فأجاب الله تعالى عن شبهتهم بقوله: {لنثبت}. إلخ. وتقريره من وجوه أحدها: أن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يكن قارئًا كاتبًا بخلاف موسى وداود وعيسى فلم يكن له بد من التلقن والتحفظ فأنزله الله عليه منجمًا في عشرين سنة. وعن ابن جريج: في ثلاث وعشرين ليكون أقرب إلى الضبط وأبعد عن النسيان والسهو. وثانيها أن الاعتماد على الحفظ أقرب إلى التحصيل من الاعتماد على الكتابة والحفظ لابد فيه من التدرج. وثالثها إن نزول الشرائع متدرجة أسهل على المكلف منها دفعة. ورابعها أن نزول جبريل ساعة فساعة مما يقوي قلبه ويعينه على تحمل أعباء النبوّة والرسالة. وخامسها أن نزوله مفرّقًا يوجب وقوع التحدي على أبعاض القرآن وأجزائه ونزوله جملة يقتضي وقوع التحدي على مجموعة، ولا ريب في أن الأول أدخل في الإعجاز. وسادسها أن نزوله بحسب الوقائع والحوادث أوفق في باب التكاليف والاستبصار وأدل على الأخبار عن الحوادث في أوقاتها. وسابعها أن في تجديد منصب السفارة في كل حين مزيد شرف لجبريل.
وللترتيل معانٍ منها: أنه قدره آية بعد آية وفدعة عقيب دفعة. ومنها التأني في القراءة ومعنى {ورتلناه} أمرنا بترتيل قراءته ومنه حديث عائشة في قراءته: لا يسرد كسردكم. هذا لو اراد السامع أن يعدّ حروفها لعدها وهو مأخوذ من ترتيل الأسنان أي تفليحها. يقال: ثغر مرتل ويشبه بنور الأقحوان في تفليجه. ومنها أنه نزله في مدد متباعدة الأطراف جملتها عشرون سنة ولم يفرقه في مدد متقاربة. ثم ذكر أنهم محجوبون في كل أوان بقوله: {ولا يأتونك بمثل} اي بسؤال عجيب من اسئلتهم الباطلة الذي كأنه مثل في البطلان إلا ونحن نأتي بالجواب الحق الذي لا محيد عنه وبما هو أحسن معنى ومؤدى من سؤالهم. قال جار الله: لما كان التفسير هو التكشيف عما يدل عليه الكلام وضع موضع معناه فقالوا: تفسير الكلام كيت وكيت كما قيل: معناه كذا وكذا. ووجه آخر وهو أن يراد {ولا يأتونك} بحال وصفة عجيبة يقولون هلا كانت صفته وحاله أن ينزل معه ملك أو يلقى إليه كنز أو ينزل عليه القرآن جملة إلا أعطيناك نحن ما يحق لك في حكمتنا ومشيئتنا وما هو أحسن بيانًا لما بعثت به، ومن جملة ذلك تنزيل القرآن مفرقًا منجمًا فإن ذلك أدخل في الإعجاز كما مر، ثم أوعد هؤلاء الجهلة بأنهم شر مكانًا من أهل الجنة والبحث عنه نظير ما مر في صفة أهل الجنة خير مستقرًا.
قال جار الله: كأنه قيل لهم: إن الذي يحملكم على هذه الأسئلة هو أنكم تضللون سبيله صلى الله عليه وسلم وتحتقرون مكانه ومنزلته، ولو نظرتم بعين الإنصاف وأنتم من المسحوبين على وجوهكم إلى جهنم لعلمتم أن مكانكم شر من مكانه وسبيلكم أضل من سبيله. عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم «يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أثلاث: ثلث على الدواب وثلث على وجوهم وثلث على اقدامهم ينسلون نسلًا» ثم ذكر طرفًا من قصص الأولين على عادة افتنانه في الكلام تنشيطًا للأذهان وتسلية لنبيه كأنه قال: لست يا محمد بأول من ارسلناه فكذب وآتيناه الآيات فردّ بل آتينا موسى التوراة وقويناه بأخيه ومع ذلك كذب ورد. ومعنى الوزير تقدم في طه. والوزارة لا تنافي النبوة فقد كان يبعث في الزمن الواحد أنبياء ويؤمرون بأن يوازر بعضهم بعضًا. ولاشتراكهما في النبوة قيل لهما {اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا} إن حملناه على تكذيب آيات الإلهية فظاهر، وإن حملناه على تكذيب آيات النبوة فاللفظ ماضٍ والمعنى على الاستقبال على عادة إخبار الله تعالى. ويجوز أن يراد إلى القوم الذين آل حالهم إلى أن كذبوا فدمرناهم، وعلى هذا فلا حذف. والتدمير الإهلاك {وقوم نوح لما كذبوا الرسل} بأن كذبوه وكذبوا من قبله من الرسل صريحًا كأنهم لم يروا بعثة الرسل اصلًا كالبراهمة، أو لأن تكذيب واحد من الرسل كتكذيب كلهم {أغرقناهم وجعلناهم} أي إغراقهم وقصتهم {للناس آية} محل اعتبار {وأعتدنا للظالمين} وهم قوم نوح أو لكل من سلك سبيلهم في التكذيب. وقصة عاد وثمود مذكورة مرارًا، وأما الرس فعن أبي عبيدة أنه البئر غير المطوية، والقوم كانوا من عبدة الأصنام اصحاب آبار ومواش، بعث الله عز وجل إليهم شعيبًا فدعاهم إلى الإسلام فأبوا، فبيناهم حول الرس انهارت بهم فخسف بهم وبديارهم. وقيل: الرس قرية بفلج اليمامة قتلوا نبيهم فهلكوا وهم بقية ثمود. وقيل: هم أصحاب النبي حنظلة بن صفوان ابتلاهم الله بالعنقاء وهي أعظم ما يكون من الطيرسميت بذلك لطول عنقها، وكانت تسكن جبلهم وتنقض على صبيانهم فتخطفهم إن أعوزها الصيد فدعا عليها حنظلة فأصابتها الصاعقة. ثم إنهم قتلوا حنظلة فأهلكوا. وقيل: هم اصحاب الأخدود والرس عند العرب الدفن يقال: رس الميت: إذا دفن وغيب في الحفيرة. وقيل: الرس بأنطاكية قتلوا فيها حبيبًا النجار وستجيء القصة في سورة يس.
وعن علي رضي الله عنه أنهم قوم يعبدون شجرة الصنوبر رسوا نبيهم في الأرض. وقيل: هم قوم كانت لهم قرى على شاطئ نهر يقال له الرس من بلاد المشرق، فبعث الله تعالى إليهم نبيًا من ولد يهوذا بن يعقوب فكذبوه فلبث فيهم زمانًا ثم حفروا بئرًا فرسوه فيها قوالوا: نرجو أن يرضى عنا إلهنا، وكان عامة قومهم يسمعون أنين نبيهم يقول: إلهي وسيدي ترى ضيق مكاني وشدة كربي وضعف قلبي فعجل قبض روحي حتى مات، فأرسل الله تعالى ريحًا عاصفة شديدة الحمرة وصارت الأرض من تحتهم حجر كبريت متوقدًا وأظلتهم سحابة سوداء فذابت ابدانهم كما يذوب الرصاص وروى ابن جرير بإسناده إلىلنبي صلى الله عليه وسلم: إن الله بعث نبيًا إلى أهل قرية فلم يؤمن به من أهلها إلا عبد أسود، ثم عدوا على الرسول فحفروا له بئرًا فألقوه فيها ثم أطبقوا عليه حجرًا ضخمًا، فكان ذلك العبد يحتطب فيشتري له طعامًا وشرابا ويرفع الصخرة ويدليه إليه وكان كذلك ما شاء الله فاحتطب يومًا فلما اراد أن يحملها وجد نومًا فاضطجع فضرب الله على آذانه سبع سنين. ثم انتبه وتمطى وتحول لشقه الآخر فنام سبع سنين، ثم هب فاحتمل حزمته وظن أنه نام ساعة من نهار فجاء إلى القرية فباع حزمته فاشترى طعامًا وشرابًا وذهب إلى الحفرة فلم يجد أحدًا، وكان قومه استخرجوه فآمنوا به وصدقوه وذلك النبي يسألهم عن الأسود فيقولون: لا ندري حاله حتى قبض الله تعالى النبي وقبض ذلك الأسود فقال صلى الله عليه وسلم: «إن ذلك الأسود أول من يدخل الجنة» قلت هذه الرواية إن صحت فلا مدخل لها في المقصود فإِن المقام يقتضي أن يكون قومًا كذبوا نبيهم فأهلكوا لأجل ذلك.
أما قوله: {وقرونًا بين ذلك} فالمشار إليه ما ذكر من الأمم وقد يذكر الذاكر أشياء مختلفة ثم يشير إليها بذلك ومثله قوله الحاسب فذلك كذا أي فما ذكر من الأعداد مجموعها كذا {وكلًا} من الأمم والقرون {ضربنا له الأمثال} بينا له القصص العجيبة ليعتبروا ويتعظوا {وكلًا تبرنا} أهلكنا أشنع الإهلاك حين لم ينجع فيهم ضرب المثل. والتتبير التفتيت والتكسير. و{كلًا} الأول منصوب بما دل عليه ضربنا له الأمثال وهو انذرنا أو حذرنا {كلًا} الثاني منصوب {بتبرنا} لأنه ليس بمشتغل عنه بضميره. والضمير في {ولقد أتوا} لقريش، والقرية سدوم من قرى قوم لوط وكانت خمسًا، ومطر السوء الحجارة. {افلم يكونوا} في مرات مرورهم على تلك القرية في متاجرهم إلى الشام {يرونها بل كانوا} قومًا كفروا بالبعث لا يتوقعون نشورًا وعاقبة فمن ثم لم ينظروا إلى آثار عذاب الله نظر عبرة وادكار. {و} من جملة كفرهم وعنادهم أنهم {إذا رأوك يتخذونك إلا} محل هزؤ.
ثم فسر ذلك الاستهزاء بأنهم يقولون مشيرين إليه على سبيل الاستحقار. هذا الذي بعثه الله حال كونه رسولًا بزعمه. ويجوز أن يكون تسميته رسولًا استهزاء آخر من حيث إنه تسليم وإقرار في معرض الجحود والإنكار. وفي هذا جهل عظيم لأنهم إن استحقروا صورته فإنه أحسنهم خلقًا وأعدلهم مزاجًا مع أنه لم يكن يدعي التميز بالصورة، وإن استهزؤا بالمعنى فبه قد وقع التحدي بظهور المعجز عليه وقامت الحجة عليهم فهم أحق بالاستهزاء منه حين اصروا على الباطل بعد وضوح البرهان على الحق، ولقد شهد عليهم بمضمون هذا التقرير ابن أخت خالتهم إذ قالوا {إن كاد} هي مخففة من الثقيلة واللام في {ليضلنا} هي الفارقة كأنهم سلموا أنه لقوة العقل وسطوع الحجة شارف أن يغلبهم على دينهم ويقلبهم عن طريقتهم لولا فرط لجاجهم وصبرهم على عبادة آلهتهم. أطلقوا المقاربة أوّلًا ثم قيدوها بلولا الامتناعية ثانيًا، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم بذل قصارى مجهوده في دعوتهم حتى شارفوا على الإيمان بزعمهم. وحين وصفوه بالإضلال والمضل لابد أن يكون ضالًا في نفسه فكأنهم وصفوه بالضلال فلا جرم أوعدهم الله على ذلك بقوله: {وسوف يعلمون}. إلى آخر الآية. وإنما يرون العذاب عند كشف الغطاء عن بصر البصيرة. ثم بين إنه لا تمسك لهم فيما ذهبوا إليه سوى التقليد واتباع هوى النفس فقال معجبًا لرسوله: {أرأيت من اتخذ إلهة هواه} قدم المفعول الثاني للعناية كما تقول: علمت منطلقًا زيدًا. ثم نفى أن يكون هو حافظًا عليهم كقوله: {وما أنت عليهم بوكيل} [الأنعام: 107] {لست عليهم بمصيطر} [الغاشية: 22] قال الكلبي: نسختها آية القتال. عن سعيد بن جبير: كان الرجل يعبد الحجر فإذا رأى أحسن منه رمى به وأخذ آخر. ثم أضرب عن ذمهم باتخاذ الهوى إلهًا إلى نوع آخر أشنع في الظاهر قائلًا: {أم يحسب} وهي منقطعة ومعناه {بل} أيحسب وخص أكثرهم بالذكر إما لصون الكلام عن المنع على عادة الفصحاء العقلاء، وإما لأن منهم من كان يعرف الحق إلا أن حب الرياسة يحمله على الخلاف. وإنما نفى عنهم السماع والعقل لانتفاء فائدتهما وأثرهما. وباقي الآية تفسيرها مذكور في آخر الأعراف في قوله: {أولئك كالأنعام بل هم أضل} [الأعراف: 179] قال جار الله: جعلوا أضل من الأنعام لأنها تنقاد لأربابها التي تعلفها وترعف المحسن من المسيء وتجذب المنافع وتجتنب المضارّ وتهتدي للمراعي والمشارب، وهؤلاء لا ينقادون لربهم ولا يعرفون إحسانه من إساءة الشيطان، ولا يطلبون أعظم المنافع وهو الثواب، ولا يتقون أشد المضارّ وهو العقاب، ولا يهتدون للحق الذي هو المرتع الهنيّ والشمرب الرويّ، قلت: ويحسن أيضًا أن يذكر في وجه التفضيل أن جهل الأنعام بسيط غير مضر وجهل هؤلاء مركب مضر. ومنهم من قال: إن الأنعام تسبح لله تعالى بخلاف الكفار.